طليناه خضر
رشيد نيني
رفع حزب الاستقلال برئاسة وزيره في التجهيز، كريم غلاب، شعار الحفاظ على حياة المواطنين في الطرق، وذلك بالتمسك بمدونة السير التي استوحى غلاب بنودها المتشددة من السويد، أحد البلدان الأكثر تشددا في احترام القانون وتطبيقه على الجميع.
ومنذ دخلت هذه المدونة ردهات البرلمان ومجلس المستشارين، وحزب الاستقلال لا يتعب من البكاء على حياة عشرة مواطنين يذهبون كل يوم ضحية حوادث سير مميتة في طرقات المملكة.
ولكي تفهموا أن إشهار المدونة شهرا ونصف قبل انطلاق الحملة الانتخابية ليس سوى مزايدة انتخابية من طرف حزب الاستقلال، يجب أن يعرف جميع المغاربة أنه إذا كانت الطريق تقتل عشرة مواطنين يوميا، فإن انعدام وسائل الإسعاف عند الولادة يكلف المغرب أرواح سبع نساء كل يوم. بمعنى أن عدد ضحايا الموت عند الولادة يكاد يقترب من عدد ضحايا حوادث السير في المغرب. ومع ذلك لم تجعل وزيرة الصحة الاستقلالية ياسمينة بادو من هذا الرقم المفزع معركة حقيقية لتخفيضه مثلما فعل زميلها في الحكومة والحزب، كريم غلاب. لماذا يا ترى ؟ إليكم الأسباب.
النقل في كل بلدان العالم هو القلب النابض للاقتصاد، ومن يتحكم في التوزيع يتحكم في الجهاز المركزي الحيوي لأي بلد. حزب الاستقلال يعرف هذا جيدا، ولذلك حرص عند اقتسام الكعكة الحكومية على الاحتفاظ بهذه الوزارة الحساسة والخطيرة ضمن حقائبه الوزارية. ومن عادة حزب الاستقلال أنه كلما اقتربت الانتخابات يختلق ملفا اجتماعيا يستطيع أن يراهن به على المزيد من الأصوات لكي يحكم قبضته على البلديات والمقاطعات والجماعات التي يسيرها أو التي يضع عينه عليها. وفي سبيل ذلك لا يتردد في تطبيق سياسة «البلاشفة الجدد» الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين محترفين متفرغين كليا لخدمة الحزب الشيوعي. وهؤلاء نجدهم في حزب الاستقلال بكثرة، بحيث يضعون أنفسهم رهن إشارة الحزب. وفوقهم نجد ما كان البلاشفة يسمونهم «الكوميسير»، أي ما يسميه حزب الاستقلال بالمفتشين. وهم يوجدون في كل قرية ومدينة، ومهمتهم الأساسية القيام بالدعاية للحزب والعمل على استقطاب الأعضاء الجدد وتعبيد الطريق أمام المرشحين الحزبيين، الذين يتحملون مسؤوليات في الجماعة أو المقاطعة أو البلدية.
خطورة حزب الاستقلال أنه يستغل الوزارات التي يسيرها لدعم أعضائه في الجماعات التي يسريها الاستقلاليون. فكل وزير استقلالي ملزم بحكم عقد غير مكتوب يربطه بالحزب يقضي بدعم الجماعات التي يوجد على رأسها «الإخوة» الاستقلاليون. إلى درجة أن حزب الاستقلال جعل من هذه القاعدة الذهبية طعما استطاع أن يستقطب به العديد من رؤساء الجماعات والبلديات الذين وصلوا إلى مناصبهم عن طريق أحزاب أخرى ويرغبون في الفوز بولاية جديدة. فمع حزب الاستقلال يجد رئيس الجماعة أو المقاطعة «زفت» وزارة التجهيز رهن إشارته، وتجد ميزانيات وزارة الصحة الطريق نحو مستشفيات مقاطعته. وتأثير هذين القطاعين هو الأكثر انعكاسا على الطبقات الشعبية، بحكم الاستعمال اليومي لهما من طرف المواطنين.
لذلك فعندما قلنا إن كريم غلاب ومعه عباس الفاسي أثبتا فشلهما وعدم درايتهما بالواقع المغربي عندما أرادا فرض مدونة سير سويدية في بلاد لازال جزء كبير من شبكة طرقها تشبه طرق طورا بورا، فإننا كنا مخطئين. فغلاب وعباس يعرفان جيدا لماذا يصلح إخراج المدونة في هذا الوقت بالضبط، ولماذا يجب خنق الاقتصاد الوطني لعشرة أيام، ولماذا يجب في الأخير الاتفاق مع النقابات ومقايضتها تجميد المدونة بأصواتها في الانتخابات الجماعية المقبلة.
في السياسة يسمونها المناورة، وأخلاقيا نسميها الانتهازية. وكل من كان يعتقد أن حزب الاستقلال خسر سمعته ومصداقيته في هذه الأزمة المفتعلة فهو يريد أن يكتفي برؤية النصف الفارغ من الكـأس فقط، لأن النصف الآخر المملوء عن آخره يكشف أن حزب الاستقلال خرج من «مفاوضات» المدونة أكثر قوة من السابق، والدليل أن عباس لم يغادر طاولة الحوار مع النقابات إلا بعدما أخذ وعدا من الكاتب العام للنقابة الوطنية للنقل الطرقي، يقضي بالتصويت لصالح حزبه مقابل تجميد المدونة في رفوف البرلمان.
المعادلة واضحة الآن، يجب اختلاق مشكلة حول قانون مستورد غير قابل للتنفيذ على أرض الواقع المغربي، ويجب افتعال أسباب موضوعية لهذا المشكل حتى يظهر أصحابه بوجه إنساني يخفي الوجه الانتهازي الحقيقي الذي يوجد خلفه، ومن ثم جاءت مأساة عشرة قتلى يوميا على طرقات المملكة كشعار لهذه الأزمة. ثم بعد ذلك عندما أصبحت فصول المأساة جاهزة جاء وقت «إخراجها» فوق المسرح السياسي (البرلمان بغرفتيه)، وانتظار نزول النقابات إلى الشوارع من أجل خوض الإضراب. وحتى لا تتحول المأساة إلى ملهاة (أربعة قتلى وعشرات الجرحى سقطوا خلال الإضراب) كان ضروريا أن يجلس الفرقاء إلى طاولة الحوار، وهنا سيخرج عباس «الجوكير» السياسي لكي يمسح المائدة ويغادرها بضمانات من إحدى أكبر النقابات المشاركة في الإضراب بإعطائها أصواتها في الانتخابات المقبلة.
الرابح في هذه الجولة طبعا هو حزب الاستقلال، والخاسر الأكبر هو الاقتصاد الوطني الذي ضاعت منه آلاف الملايين من الدراهم بسبب أيام العمل التي تبخرت بسبب الإضراب.
إن «حكاية» العشرة قتلى الذين يذهبون يوميا ضحية لحرب الطرق، ليست سوى فزاعة (حقيقية للأسف) لإشعار المغاربة بالذنب وجعلهم يقبلون ببنود هذه المدونة التي ستكون بمثابة قشة الخلاص التي ستنقذ أرواحهم وأرواح أبنائهم. والحال أن المغاربة وأبناءهم يموتون يوميا بالعشرات بسبب «تقصير» قطاعات وزارية عن القيام بواجبها. وعندما نرى كيف تعترف وزارة الصحة بوفاة سبع نساء مغربيات يوميا بسبب مشاكل الولادة، نتساءل لماذا لم تجلب وزيرة الصحة الاستقلالية هي أيضا مدونة صحية من السويد لكي تحافظ بها على أرواح نسائنا التي تزهق سبع منها كل يوم.
ألا تستحق أرواح هؤلاء النساء اللواتي يلفظن أنفاسهن كل يوم عند الوضع قانونا صارما يجرم الجهات التي تتهاون في تقديم المساعدة الطبية لهن. ألا يستحق المغرب، بالإضافة إلى مدونة السير التي جلبتها وزارة التجهيز من السويد، مدونة صحية من الدانمارك لكي تقلل وزارة الصحة من ضحايا الأمراض المزمنة التي تقتل المغاربة يوميا في صمت. هل تعرفون لماذا لا يهم موت سبع نساء عند الولادة كل يوم في المغرب وزارة الصحة الاستقلالية في شيء، ببساطة لأن هذه «المأساة» لا طائل من «لعبها» على المسرح السياسي، فهي ليست مثل «مأساة» النقل الذي يستطيع أن يوقف الاقتصاد الوطني في يومين ويجعل النقابات مضطرة للجلوس والتعهد بالتصويت لحزب وزير النقل مقابل تحرير رقابهم من حبل «المدونة».
هناك فعلا حرب معلنة في طرقات المملكة، لكن وزارة التجهيز طرف في هذه الحرب وتتحمل المسؤولية الجنائية في كل تلك الأرواح العشر التي تزهق يوميا فوق إسفلت الطريق. وإذا أراد وزير النقل أن يتأكد من هذه المسؤولية فما عليه سوى أن يركب سيارته ويأخذ طريق ورزازات من مراكش، لكي يرى أي جحيم هو أن تسافر فوق طرق وزارة التجهيز.
طبعا يتحمل السائقون بعضا من المسؤولية في حرب الطرق، لكن وزارة التجهيز تتحمل الجانب الأكبر. فطرقها تفتقر إلى معايير السلامة الدولية، وحتى داخل المدن الكبرى يستحيل أن تعثر على طريق تستوفي الشروط الكونية في ما يتعلق بعلامات المرور والإشارات الضوئية وصباغة أماكن عبور الراجلين.
كل اجتهاد وزارة غلاب هو وضعها لتلك الهضاب الزفتية المسماة «ظهور الحمير» في الطرقات داخل المدن لإجبار السائقين على تخفيض السرعة. والكارثة أنه صبغها بالأحمر، مع أن كل قوانين الكرة الأرضية الخاصة بقوانين السير لا تسمح بلون آخر فوق الطرقات غير اللون الأبيض، لأن اللون الأحمر في القانون مخصص للطوارات. وما عليه لكي يعرف ذلك سوى الرجوع إلى مدونته السويدية.
اليوم في المغرب، وبعد أن فوت أغلب رؤساء الجماعات طرقات المدن التي يسيرونها لشركات مواقف السيارات الإسبانية والفرنسية، أصبح اللون الوحيد الطاغي في شوارع المدن هو اللون الأزرق الذي ترسم به هذه الشركات حدود مملكتها الجديدة والتي يتطلب الدخول إليها الدفع المسبق.
الشركات الأجنبية تطلي الأزقة والشوارع باللون الأزرق، ووزارة التجهيز تطلي «ظهور الحمير» بالأحمر، «وحنا طليناه خضر مع هادو».