الْكُفْرُ بِالْطَّاْغُوْتِ
الكاتب : بشر بن فهد البشر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ..
من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ..
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين بإحسان؛ وسَلَّمَ تسليما كثيرا ..
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الأحبة الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
ومرحباً بكم في هذا الدرس الخامس عشر من الدروس القرآنية العامة؛ بعد مغرب الأربعاء الثاني من شهر ذي القعدة لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجامع - جامع الراجحي بالربوة -
عنوان درسنا في هذه الليلة أيها الإخوة هو "" الْكُفْرُ بِالْطَّاْغُوْتِ ""
وهو يدور حول الآية التي ذكرنا في الدرس الماضي؛ وهي قوله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}
وهي في آية من سورة البقرة؛ قال الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
قال الإمام الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى في قوله سبحانه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:
أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه؛ لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة .. إلى آخر كلامه رحمه الله ..
إذن المسلمون لا يكرهون أحدا على الدخول في الإسلام ولا على اعتناقه؛ وإن كان لا بد أن يخضع لحكم الله تعالى ويبذل الجزية؛ فإن لم يفعل وجب قتاله حتى إما أن يسلم أو يبذل الجزية صاغراً {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
وذلك كله أيها الأحبة بعد الدعوة إلى الإسلام ..
{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أي: قد تميز الإيمان من الكفر؛ ووضح الحق من الباطل؛ والهدى من الضلال؛ فمن نظر بعين العدل والإنصاف، وقَصَدَ الحق؛ ظهر له أن الإسلام هو الرشد والحق والهدى فأسلم واهتدى؛ بخلاف من اتبع الهوى ولم يرد الحق ولا اتباعه ! بل آثر الحياة الدنيا !!
ثم قال الله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}
"العروة": طرف الحبل إذا ربط على هيئة حلقة، يمسك بها من ينزل في بئر أو يصعد منها .. فهي وسيلة النجاة .
و"الوثقى": شديدة الربط لا أوثق منها؛ والمراد بالعروة الوثقى هنا: قيل الإسلام؛ وقيل القرآن؛ وقيل "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه"؛ وكلها أقوال صحيحة متلازمة ولا تنافي بينها؛ فالمراد أنه استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم؛ فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد .
قال قَيْس بْن عُبَاد: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة .. فلما خرج اتبعته، حتى بلغ منزله فدخلت معه فحدثته؛ فلما استأنس، قلت: إن القوم لما دخلت المسجد قالوا كذا وكذا؛ قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم ..وسأحدثك لِمَ ؟
إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه؛ رأيت كأني في روضة خضراء (قال ابن عون وهو أحد الرواة) فذكر من خضرتها وسعتها؛ وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة؛ فقيل لي: إصعد عليه ! فقلت: لا أستطيع؛ فجاء منصف (قال ابن عون: هو الوصيف أي الخادم) فرفع ثيابي من خلفي؛ فقال: اصعد ! فصعدت حتى أخذت بالعروة .. فقال: استمسك بالعروة !
فاستيقظت وإنها لفي يدي !! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه؛ فقال: أما الروضة؛ فروضة الإسلام، وأما العمود؛ فعمود الإسلام، وأما العروة؛ فهي العروة الوثقى !!! أنت على الإسلام حتى تموت ..
قال وهو عبد الله بن سلام رضي الله عنه .. والحديث في الصحيحين ..
أما قوله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} فهو موضوعنا في هذه الليلة؛
والحديث أيها الأحبة في هذه المسألة العظيمة يستلزم معرفة معنى "الْطَّاغُوْتِ"، ومعنى "الكفر به" ..
أما " الْطَّاغُوْتُ " في أصل اللغة؛ فقال أبو الحسين بن فارس رحمه الله في "معجم مقاييس اللغة"؛ عند مادة "طغى": الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاد وهو مجاوزة الحد في العصيان، يقال: هو طاغٍ، وطغى السيل إذا جاء بماء كثير .. قال الله تعالى {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء} يريد والله أعلم: خروجه عن المقدار، وطغى البحر: هاجت أمواجه . انتهى كلامه رحمه الله ..
وكل التعريفات اللغوية تدور حول مجاوزة الحد وكل من تجاوز حده فقد طغى ..
قال تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}
وقال ربنا سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ}
وقال سبحانه {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}
وأما " الكفر"؛ فكما قال ابن فارس وغيره: هو في أصل اللغة الستر والتغطية، ثم استعمل في الجحود؛ والجحود متضمن لتغطيةٍ مع رفضٍ وإباءٍ، ومنه قول الكفار {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي: جاحدون رافضون ..
وقبل أن أدخل في التعريف الاصطلاحي؛ أحب أن أورد الآيات التي ذُكِرَ فيها "الْطَّاغُوْتُ"
مع كلام يسير على معنى "الْطَّاغُوْتِ" في كل منها، ثم أتبع ذلك بشيء مما ورد في السنة النبوية حتى يتبين بذلك المعنى الاصطلاحي لهذا المصطلح العظيم:
قال الله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
"الْطَّاغُوْتُ" هنا: أئمة الكفر وشياطين الضلال، يأمرونهم ويزينون لهم الكفر ومحاربة الحق والصد عن سبيل الله تعالى، فيخرجونهم من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ ومن طريق الحق والهدى إلى ظلمات الشك والحيرة والكفر والنفاق ..
وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}
هذه الآية نزلت في بعض زعماء اليهود حينما فضلوا دين المشركين على ما جاء به خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، فهم - أي اليهود؛ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما - أوتوا نصيبا من علم الكتاب - وهو التوراة -؛ ولكن لم ينفعهم علمهم ! فآمنوا بما كان الفرض والواجب أن يكفروا به من الجبت و"الْطَّاغُوْتِ" !! وكذبوا على الله؛ ففضلوا الوثنية على التوحيد ! حقداً وحسداً واستكباراً ..
والجبت قيل هو السحر و"الْطَّاغُوْتُ" الشيطان؛ وهذا تفسير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسيأتي إن شاء الله تعالى .. وقيل "الْطَّاغُوْتُ" هو الكاهن ...
وقال الله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}
"الْطَّاغُوْتُ" هنا: كل من يحكم بغير ما أنزل الله من كاهن أو زعيم قبيلة أو برلمان أو محكمة غير شرعية أو هيئة دولية أو غير ذلك ..
وإنما ذكر العلماء الكاهن لأن العرب في جاهليتها قبل الإسلام كانت تتحاكم إلى الكهان، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان لمعنى هذه الآية العظيمة إن شاء الله تعالى ..
وقال الله سبحانه {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}
"الْطَّاغُوْتُ" هنا: الشيطان؛
فالمؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه؛ لإعلاء كلمته ولتحكيم شرعه؛ أما الكافرون والمنافقون فإنهم يقاتلون في طاعة الشيطان وفي سبيله وما يوقعه في قلوب الناس، فيتقاتلون عليه من طلب الفخر والعلو في الأرض والغلبة بالباطل وإذلال الغير وسلب أموال الناس والاعتزاز بالعصبيات والقوميات ..
وقال الله تعالى عن اليهود {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}
"الْطَّاغُوْتُ" هنا: هو الشيطان أو الكهنة؛ وكهنة اليهود هم أحبارهم وزعماؤهم؛ والمراد أنهم عبدوهم فأطاعوهم في التحليل والتحريم من دون الله تعالى ..
ولاحظ أن كثيرا من الآيات قد نزلت في اليهود ! وذلك لأن اليهود قد عتوا عن أمر الله تعالى وانحرفوا عما جاءت به الرسل؛ فتحاكموا إلى الطواغيت الذين يحكمون بالأهواء وبما شرعوه لأنفسهم !!!
وقد ذكر الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية قراءة {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ}
بالإضافة على أن المعنى: خدام "الْطَّاغُوْتِ" وعبيده ...
وقال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}
وقال سبحانه {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}
فـ"الْطَّاغُوْتُ" هنا: كل ما عبد من دون الله تعالى؛ فإن كان المعبود صالحاً فـ"الْطَّاغُوْتُ" الشيطان الآمر بالعبادة المزينها للكافرين ..
أيها الإخوة .. ومن هنا تتبين لنا معاني "الْطَّاغُوْتِ" في كتاب الله تعالى؛ وهي تنحصر فيما يلي:
الأول: ما يعبد من دون الله تعالى؛ سواء كان هذا المعبود صنماً أو قبراً أو عبداً صالحاً أو جِنَّاً أو غير ذلك ..
والثاني: من يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه؛ سواء كان هذا الحاكم هو الكاهن أو كان هو الزعماء أو كان هو العلماء والأحبار والرهبان، أو كان غير ذلك ..
والمعنى الثالث: الشيطان وكل من دعا إلى معصية الله من أئمة الضلال ..
والرابع: الكاهن ونحوه ممن يدعي علم الغيب ..
والخامس: من يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله ويٌشَرِّعُ ما لم يأذن به الله ويطاع في معصية الله؛ تبارك الله وتعالى ..
***
أما السنة؛ فقد ذُكِرَ الطواغيت في مواضع كثيرة منها:
ومن ذلك ما روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال: (هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب) . قالوا: لا يا رسول الله .. قال: (فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب) . قالوا: لا .. قال: (فإنكم ترونه كذلك .. يحشر الناس يوم القيامة؛ فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبع .. فمنهم من يتبع الشمس ! ومنهم من يتبع القمر ! ومنهم من يتبع الطواغيت ! .. إلى آخر الحديث) والطواغيت هنا: ما عبد من دون الله تعالى؛ سواء كان ذلك من الجمادات أو كان ذلك من رؤوس الضلال ..
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم" رواه مسلم والنسائي وابن ماجة، ولفظ مسلم: "لا تحلفوا بالطواغي" على الترخيم ..
والمراد بالطواغيت هنا: الأصنام التي كانوا يعظمونها، فيحلفون بها، مثل العزى واللات ومناة وغيرها ..
أيها الأحبة .. وبعد أن أوردنا بعض النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي تبين معنى "الْطَّاغُوْتِ" وتوضحه؛ أورد معناه .. ثم أورد تعريفه اصطلاحا مختصراً من كلام أهل العلم:
ذكر الإمام البخاري في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
الجبت السحر، و"الْطَّاغُوْتُ" الشيطان؛ قال الحافظ بن كثير: وهو قول قوي جدًّا فإنه يشمل كل ما عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها .
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه - أيضاً روى هذا عنه البخاري في صحيحه معلقاً: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها في جهينة واحد؛ وفي أسلم واحد؛ وفي كل حي واحد؛ كهان ينزل عليهم الشيطان !! ..
وذكر البخاري أيضاً عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "الْطَّاغُوْتُ": الكاهن ..
وروى الإمام الطبري عن مجاهد قال: "الْطَّاغُوْتُ": شيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه .
وقال ابن عباس: "الْطَّاغُوْتُ": كعب بن الأشرف، وهو رجل من اليهود ..
واختار الإمام الطبري رحمه الله: أن "الْطَّاغُوْتَ": جنس من كان يعبد من دون الله ..سواء كان صنماً أو شيطاناً أو جنياً أو آدمياً؛ فيدخل فيه الساحر والكاهن ..
قال الطبري: الصواب عندي أنه كل طاغٍ طغى على الله، يعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبد، وإما بطاعة ممن عبد، إنساناً كان، أو شيطاناً، أو حيواناً، أو جماداً .
وقال الجوهري: "الْطَّاغُوْتُ": الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال ..
وقد جمع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما قيل في معنى "الْطَّاغُوْتِ"؛ فعرفه بقوله: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ...
ومراده رحمه الله تعالى أن "الْطَّاغُوْتَ": كل ما ارتفع عن قدره الذي ينبغي له في الشرع وادعى لنفسه من الحقوق ما ليس له .." من معبود أو متبوع أو مطاع" أي: من غير الصالحين؛ لأن الصالحين لا يرضون بهذا .
فكل من رفع نفسه إلى مرتبة الألوهية أو رفعه الناس إلى ذلك فرضي ! فهو طاغوت .. وإذا كان يدعي ذلك فجرمه أعظم ! وكل متبوع من العلماء تجاوز حَدَّهُ؛ وحَدُّهُ اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا تجاوز حده في التحليل والتحريم من دون الله تعالى؛ يعني: أن يحلل ما حرمه الله؛ أو يحرم ما أحله الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أو دعا إلى بدعة؛ أو زين المعصية؛ فهو طاغوت ..
وكل مطاع ممن له سلطة تجاوز حده؛ وحده تنفيذ شرع الله تعالى والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله وسياسة الدنيا بالدين؛ فإذا تجاوز حده فأمر بمعصية الله تعالى أو شرع للناس قوانين تحكمهم ويلزمهم بها مخالفة لما جاء به المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم فهو إذن طاغوت ...
أيها الإخوة ..
وإذا تبين لنا معنى "الْطَّاغُوْتِ"؛ فليعلم كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض: أن "الْكُفْرَ بِالْطَّاْغُوْتِ" هو شطر شهادة أن "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه"، والإيمان بالله هو الشطر الثاني ..
يعني أنَّ "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه" تدل على أمرين:
الأمر الأول: أن الله تعالى هو المعبود بحق وحده سبحانه؛ ولا يستحق العبادة سواه..
والأمر الثاني: أن الكفر بكل معبود دون الله تعالى فرض وواجب ..
ولذلك فإن العلم بـ "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه" المأمور به في قوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}؛ يعني إذن: أنه لا بد من معرفة "الْطَّاغُوْتِ" لكي نكفر به ..
و"الْكُفْرُ بِالْطَّاْغُوْتِ" أيها الأحبة يعني: اعتقاد بطلانه، وبغضه، وتركه، والبراءة منه، وإنكاره، وبغض أهله ومعاداتهم والبراءة منهم.
يقول شيخ الإسلام الإمام المجدد - محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله أن أول ما فرض الله على ابن آدم "الْكُفْرَ بِالْطَّاْغُوْتِ"، والإيمان بالله..
وقال أيضاً رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله ! ("ما" هنا نافية؛ يعني: لا يصير مؤمنا بالله) إلا بـ"الْكُفْرِ بِالْطَّاْغُوْتِ"؛ والدليل قوله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} ..
وقال أيضاً في موضع آخر - قدس الله تعالى روحه - قال في رسالة له:
إخواني تمسكوا بأصل دينكم، أوله وآخره، أُسِّهِ ورأسه، وهو شهادة أن "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه"، واعرفوا معناها، وأَحِبُّوْا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين ! واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: "ما علي منهم"، أو قال: "ما كلفني الله بهم"، فقد كذب هذا على الله وافترى ! بل كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانه أو أولاده !!!
فالله الله ! تمسكوا بأصل دينكم؛ لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئا ! انتهى كلامه رحمه الله
واسمحوا لي أيها الإخوة إن أطلت في إيراد الكلام عن هذا الإمام؛ فإنه من أحسن من بين أمر "الْطَّاغُوْتِ" وعَرَّاْهُ على حقيقته، وحَذَّرَ المسلمين منه ..
قال أيضاً رحمه الله: اعلم رحمك الله أن فرض معرفة شهادة أن "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه" قبل فرض الصلاة والصوم، فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة والصوم !!
وحرم الشرك والإيمان بـ"الْطَّاغُوْتِ" أعظم من تحريم نكاح الأمهات والعمات !!!
وقال أيضاً رحمه الله في الأصول الثلاثة؛ مبينا أن "الْكُفْرَ بِالْطَّاْغُوْتِ" فرض على كل الأمم ! ودعا إليه كل الرسل !! قال رحمه الله: وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين؛ يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة "الْطَّاغُوْتِ"؛ والدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} ..
أيها الأحبة .. فـ"الْكُفْرُ بِالْطَّاْغُوْتِ" إذن: شرط الإسلام .. وركن الشهادة .. فمن لم يكفر بـ"الْطَّاغُوْتِ"؛ فليس بمسلم !!!
كما قال صلى الله عليه وسلم: من قال "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه"، وكفر بما يعبد من دون الله (وهو "الْطَّاغُوْتُ") حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل .. رواه الإمام مسلم في صحيحه ..
ولذلك؛ فإن معرفة "الْطَّاغُوْتِ"، ومعرفة أنواع الطواغيت - خاصة ما ابتلي به المسلمون في هذا العصر - من أعظم ما يجب على المسلم !!!
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ رضي الله عنه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية !!!
والمعنى أنه قد يحمله جهله بحقيقة الإسلام، وجهله بحقيقة الجاهلية على اعتناق مبادئ جاهلية ! ورفض بعض مبادئ الإسلام !! وقد يتطور الأمر إلى أعظم من ذلك؛ فيحارب بعض مبادئ الإسلام، وينصر بعض مبادئ الجاهلية !!! وهذا قد حصل بالفعل !!!!
وإنما ابتلي المسلمون بالطواغيت في هذا العصر حينما جهلوا حقيقة دينهم ! وحينما جهلوا حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم !! بل؛ وجهلوا حقيقة "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه" !!!
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير؛ وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ..
وما أحسن ما قال الشاعر:
عَرَفْتُ الْشَرَّ لَاْ لِلْشَرِّ وَلَكِنْ لِتَوَقِّيْهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْشَرَّ مِنَ الْخَيْرِ يَقَعْ فِيْهِ
وإذا تبينت أهمية الموضوع؛ فليعلم كل مسلم أن علماء الإسلام رحمهم الله تعالى قد اعتنوا ببيان معنى "الْطَّاغُوْتِ"، وكشف حقيقته، والتحذير منه، نصحاً للأمة وبراءة للذمة ..
والبيان للشيء أيها الأحبة؛ إنما يكون كما هو معلوم حسب الحاجة ...
فكلما انتشرت الفتنة بنوع من أنواع الطواغيت؛ هيأ الله تعالى من أهل العلم من يتصدى لها؛ حفظاً للدين، ومصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من ناوأهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ..
ومصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ..
وكلما كان العالم معتقدا بعقيدة السلف الصالح؛ التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وكلما كان راسخاً في العلم، وكلما كان عالماً بواقعه وبحال عصره، كلما كان اهتمامه بهذا الأصل العظيم أعظم، وكلما كانت عنايته به أكبر ..
فلما ظهرت الطواغيت في بلاد المسلمين قبل زمان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ كان كثير من الأمور التي اهتم بها واعتنى بها وركز جهوده على بيانها؛ هي أمور الطواغيت .. ومن ذلك أنه تكلم كثيرا عن عبادة غير الله تعالى، والاستغاثة بغير الله في كثير من كتبه ..
ولما وجد تحكيم غير الشريعة عند التتار، ووجد التحاكم إلى عادات الآباء والأجداد عند بعض البادية، ووجد الانحراف عن الكتاب والسنة إلى ما يسمونها بـ"السياسات" عند بعض المتفقهة؛ حَذَّرَ من ذلك أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ..وكذلك تلاميذه: كابن القيم وابن كثير وغيرهما رحمهما الله تعالى ..
ثم بعد ذلك بقرون ! بعد أن أظلمت الأرض بالشرك والبدعة !! وبعد أن فشت الضلالة والجهالة !!!
هيأ الله تعالى لهذه الأمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .. وهيأ من بعده تلاميذه .. فبينوا كثيراً من أنواع الطواغيت التي ابتلي بها المسلمون في عصرهم؛ ككثرة ما يُعْبَدُ من دون الله من القبور ومن الشياطين وممن يسمونهم بالصالحين والأولياء !!
وكذلك كثر في عهدهم الكهان والسحرة ! ووجد في عهدهم التحاكم إلى غير شرع الله !! فاعتنوا ببيان ذلك والتحذير منه وفضحه وكشف زيفه ..
ثم لما ابتلي المسلمون في زماننا بالعلمانية الكافرة ! وبالقوانين الجاهلية الطاغوتية؛ المستوردة من أوروبا النصرانية الكافرة !! أظهر الله تعالى لهذه الأمة من يتصدى لها؛ وَيُبَيِّنُ شَرَّهَا؛ وأنها نقض صريح لأصل دين الإسلام وهو شهادة أن "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه"؛ وأنها هي "الْطَّاغُوْتُ" الذي وجب على المسلمين أن يكفروا به ..
لقد تصدى لذلك إمام زمانه؛ وشيخ الإسلام في عصره؛ مفتي هذه البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى ..وبين ذلك عالم الحديث في زمانه العلامة الجليل الشيخ أحمد شاكر رحمه الله .. وبين ذلك العالم القرآني والإمام الرباني الشيخ محمد الأمين الشنقيطي؛ صاحب " أضواء البيان" رحمه الله تعالى .. وبينه كثير من علماء المسلمين في كافة أنحاء هذه الأرض ..
ولا يزال الله تعالى يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، ويبينون حقيقة الدين لشباب الأمة ولأجيالها.
ولقد حذر العلماء من "الْطَّاغُوْتِ" بكل وسيلة؛ بالنثر وبالنظم ..
ومن أحسن من تكلم عن "الْطَّاغُوْتِ" - بعد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى - في هذه القرون المتأخرة العلامة الجليل الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى؛ في رسالة جيدة له؛ سأتناول بعضها في نهاية حديثي إليكم في هذه الليلة ..
وكذلك العلامة الجليل الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله تعالى؛ وكلامه موجود في " الْدُّرَرُ الْسَنِيَّةُ "؛ وسأذكر بعضه إن شاء الله قريباً عند الحديث عن أنواع الطواغيت ..
وكذلك أذكر ما ورد فيه من النظم لأحد علماء عصره؛ العلامة الجليل الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ..
***
أيها الأحبة .. ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى على علم بـ"الْطَّاغُوْتِ" وأنواعه؛ ولذلك قَلَّ فيهم الانحراف عن الصراط المستقيم ..
وإنما ينشأ الانحراف عن الصراط المستقيم إذا جُهِلَتْ حقيقة الدين .. ولذلك؛ لما تغيرت حال الأمة بعد القرون الثلاثة المفضلة، وقويت البدعة، ظهر الجهل بـ"الْطَّاغُوْتِ" ..
إخوة الإسلام .. ولقد كان للمتكلمين من المعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم؛ وكذلك كان للمرجئة أسوأ الأثر على الأمة الإسلامية في تعكير صفاء العقيدة !!!
وفي إفساد فطرتها وحرفها عن الجادة .. مما أدى إلى الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسله ! وأنزل به كتبه !! وهو التوحيد المشتمل على ركنين عظيمين:
أولهما: الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له ..
وثانيهما: "الْكُفْرُ بِالْطَّاْغُوْتِ" ..
لقد كان أثر المتكلمين سيئاً؛ فإنهم فسروا معنى "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه" بتوحيد الربوبية فقط !!!
فقالوا: معناها: أن الله هو الخالق؛ وأنه لا قادر على الاختراع إلا الله ..
فعندهم أن من آمن بهذا: وهو أن الله تعالى هو الخالق وهو الرازق وغير ذلك من أفعال الرب سبحانه فهو الموحد الكامل التوحيد !! فهذا هو التوحيد عندهم !!!
وعلى هذا الأصل فإن أبا جهل وأبا لهب يكونان من الموحدين !!! لأنهما ما كانا ينكران أن الله هو الخالق وهو الرازق .. {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
إنما كان شرك أبي جهل وشرك أبي لهب في توحيد الألوهية؛ وهو الإخلاص لله تعالى بالعبادة .. حين ذاك انحرفت الأمة؛ أعني: بعد أن ظهر هؤلاء المتكلمون؛ وانتشروا في عرض بلاد الإسلام وطولها ..
فانحرفت الأمة في معنى "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه" فَأَدَّى ذلك إلى عبادة القبور ! وهي من الطواغيت؛ وَأَدَّى ذلك إلى صرف كثير من أنواع العبادة للكهان والسحرة والمنجمين والأولياء والصالحين وغيرهم !! وهذا هو "الْطَّاغُوْتُ" ..
وَأَدَّى ذلك إلى التساهل بالتحاكم إلى غير شريعة الله تعالى ! لأن ذلك عندهم "أمر عملي" !!!
أما المرجئة؛ فإنهم من أشد الناس تأثيراً على المسلمين ! وقد أفسدوا عقائد المسلمين وأفسدوا أعمالهم وأفسدوا أخلاقهم وسلوكهم !!!
إن "الإرجاء" يعني: أن الإيمان هو: التصديق بالقلب بصحة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ومعنى هذا أن أبا طالب كان مؤمناً لأنه كان يصدق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق؛ وأنه صادق؛ ولكنه أبى اتباعه وأبى طاعته وكان آخر ما قال عند وفاته: هو على ملة عبد المطلب ..
إن أبا طالب هو الذي قال في أبيات له:
وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَاً
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارُ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَاً
فإذن هو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صادقاً !! وهكذا كان كفار قريش؛ يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق فيما قال؛ ولكنهم أبوا واستكبروا عن طاعته؛ فكانوا بذلك كافرين ...
إذن .. إن المرجئة قد جعلوا الأعمال شيئاً خارجاً عن الإيمان !! فمن صدق بقلبه فهو عندهم مسلم؛ حتى ولو لم يقر بلسانه ! ولو لم يعمل شيئاً من أمور الإسلام ..
وبذلك وجد الحكم بغير ما أنزل الله في معظم بلاد المسلمين .. وسكت علماء المرجئة !!!
فعندهم أن ذلك لا يتعارض مع "مسمى الإيمان" !!! وذلك والله انحراف عن الحق .. وانحراف عن منهج أهل السنة والجماعة؛ الذي هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
كل ذلك أيها الأحبة أدى إلى خفاء نواقض الإسلام وإلى خفاء موجبات الردة عند كثير من المسلمين ! مما أدى إلى انتشار الحكم بـ"الْطَّاغُوْتِ" وانتشار عبادة "الْطَّاغُوْتِ" في بلاد المسلمين وهم يظنون أنهم لا زالوا على الإسلام وأنهم يحسنون صنعاً !!!
***
أيها الأحبة .. ولقد بلغت عناية السلف الصالح بهذا الأصل العظيم؛ أن ينصُّوا في وصاياهم على "الْكُفْرِ بِالْطَّاْغُوْتِ" !!
روى الإمام أبو محمد الدارمي رحمه الله تعالى في سننه: عن مكحول حين أوصى أنه شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ويؤمن بالله ويكفر بـ"الْطَّاغُوْتِ" على ذلك يحيا إن شاء الله ويموت ويبعث إلى آخر وصيته ..
فأنت ترى أيها المسلم أن هذا الإمام الجليل قد نص في وصيته على كفره بـ"الْطَّاغُوْتِ"؛ وذلك لأنه يعلم أن "الْكُفْرَ بِالْطَّاْغُوْتِ" شرط للإسلام ..
أيها الأحبة؛ وأذكر هنا بعض الكلام الجامع في بيان معنى "الْطَّاغُوْتِ" ..
ثم أبدأ إن شاء الله تعالى في الحديث المفصل عن أهم رؤوس الطواغيت ..
يقول الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله بعد إيراده نقولاً عن العلماء في معنى "الْطَّاغُوْتِ"؛
قال: تحصَّلَ من مجموع كلامهم أن اسم "الْطَّاغُوْتِ" يشمل كل معبود من دون الله؛ وكل رأس في الضلال يدعو إلى الباطل ويحسنه؛ ويشمل أيضاً كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله؛ ويشمل أيضاً الكاهن والساحر وسدنة الأوثان الداعين إلى عبادة المقبورين وغيرهم بما يكذبون من الحكايات المضلة للجهال ! الموهمة أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من توجه إليه وقصده !! وأنه فعل كذا وكذا !!! مما هو كذب أو من فعل الشياطين؛ ليوهموا الناس أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من قصده فيوقعوهم في الشرك الأكبر وتوابعه؛ وأصل هذه الأنواع وأعظمها الشيطان ! فهو "الْطَّاغُوْتُ" الأكبر !! انتهى كلامه رحمه الله ..
وقال العلامة الجليل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في آخر أرجوزة له سماها: " الأرجوزة المفيدة في مسائل العقيدة "
قال في بيان معنى "الْطَّاغُوْتِ":
وَالْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ فَرْضٌ لَازِمُ فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَأَيْنَ الْعَالِمُ
فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالنَّحْلِ الَّذِي يَكْفِي وَيَشْفِي فَاشْرَبِ الصَّافِي الْعَذِي
فَكُلُّ مَا قَدْ جَاوَزَ الْمَشْرُوعَا فَإِنَّهُ الطَّاغُوتُ قُلْ مَمْنُوعَا
عِبَادَةً أَوْ طَاعَةً أَوْ حُبَّاً سَمَّي الْمُطَاعَ فِي الضَّلَالِ رَبَّاً
هَذَا عَدِيٌّ قَالَ لَسْنَا نَعْبُدُ قَالَ النَّبِيُّ لَيْسَ هَذَا الْمَقْصِدُ
يَتْلُو عَلَيْهِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابَهُمْ مُبْيِّناً أَخْبَارَهُمْ
هِي طَاعَةُ الْأَحْبَارِ فِي التَّحْلِيلِ كَذَاكَ فِي التَّحْرِيمِ بِالتَّضْلِيلِ
وَالْحُكْمُ بِالْقَانُونِ أَمْرٌ مُنْكَرُ لَا حَبَّذَا مَأمُورُهُمْ وَالْآمِرُ
مَا عَلِمَ الْمِسْكِينُ حِينَ يُدْهِنُ "لَا تَجِدُ" "لَا تَقْعُدُواْ" "لَا تَرْكَنُواْ"
يَقُولُ "دِينِي لِي و"قُلْ يَا أَيُّهَا" تَكْفِي وَلَكِنْ قَدْ دَهَاهُمْ جَهْلُهَا
قَدْ أُنْزِلَتْ لِلْفَرْقِ وَالْمُصَارَمَةِ فَاتُّخِذَتْ لِلْجَمْعِ وَالْمُسَالَمَةِ
انتهى المقصود من كلامه ..
يقول: (وَالْكُفْرُ بِالطَّاغُوتِ فَرْضٌ لَازِمُ ... فِي الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فَأَيْنَ الْعَالِمُ)
يعني أنه شرط في العروة الوثقى؛ كما في آيتنا التي معنا؛ ثم يقول: (فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ) التي هي معنا {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}
(وَالنَّحْلِ): يعني قوله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (الَّذِي ... يَكْفِي وَيَشْفِي) يعني: أن من علم معنى ما في آية الكرسي أو ما جاء بعد آية الكرسي - الآية التي بعدها - وما جاء في سورة النحل؛ فإنه يكفيه في معرفة حقيقة التوحيد ..
(فَاشْرَبِ الصَّافِي الْعَذِي) أي: فاشرب من المعين الصافي الذي لم يخلط ولم يكدر بشيء ..
(فَكُلُّ مَا قَدْ جَاوَزَ الْمَشْرُوعَا ... فَإِنَّهُ الطَّاغُوتُ قُلْ مَمْنُوعَا):
هذا هو تعريف "الْطَّاغُوْتِ"؛ كل ما تجاوز حده المشروع له مما شرعه الله ورسوله فهو "الْطَّاغُوْتُ" وقل: إن هذا الأمر ممنوع ..
(عِبَادَةً أَوْ طَاعَةً أَوْ حُبَّاً) يعني: إذا تجاوز به حده في العبادة فعبده؛ أو أطاعه فتجاوز به حده في الطاعة؛ أو أحبه فتجاوز به حده في الحب؛ فإن هذا هو"الْطَّاغُوْتُ"
قال: (سَمَّي الْمُطَاعَ فِي الضَّلَالِ رَبَّاً) ؛ فمن أطيع في الضلال فهو رب !
لأن الله قال {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} كما ذكر الناظم ..
قال:
(هَذَا عَدِيٌّ قَالَ لَسْنَا نَعْبُدُ قَالَ النَّبِيُّ لَيْسَ هَذَا الْمَقْصِدُ
يَتْلُو عَلَيْهِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابَهُمْ مُبْيِّناً أَخْبَارَهُمْ
هِي طَاعَةُ الْأَحْبَارِ فِي التَّحْلِيلِ كَذَاكَ فِي التَّحْرِيمِ بِالتَّضْلِيلِ)
يقول رحمه الله: إن من أطيع في الضلال؛ فإن من أطاعه قد اتخذه ربا !!
وإن عدي بن حاتم لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قال عدي: يا رسول الله؛ لسنا نعبدهم !! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا هو المقصود؛ (قَالَ النَّبِيُّ لَيْسَ هَذَا الْمَقْصِدُ) ؛ المقصود إذن أنه قال له: ألم يُحِلُّوْا لكم الحرام فتطيعوهم ؟!
قال: بلى؛ قال: وَيُحَرِّمُوْا عليكم الحلال فتطيعوهم ؟!! قال: بلى؛ قال: فتلك عبادتهم !!!
(يَتْلُو عَلَيْهِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابَهُمْ مُبْيِّناً أَخْبَارَهُمْ
هِي طَاعَةُ الْأَحْبَارِ فِي التَّحْلِيلِ كَذَاكَ فِي التَّحْرِيمِ بِالتَّضْلِيلِ)
إذن: من أطاع العلماء أو الزعماء في تحليل ما حرم الله تعالى؛ كتحليل الزنا ! أو تحليل الخمر !أو غيرها !! أو أطاعهم في تحريم ما أحل الله؛ كتحريم تعدد الزوجات أو غير ذلك !! فإنه بذلك قد جعلهم طواغيت !!! وهو بذلك يكون مشركاً قد خرج من الإسلام !!!! إذا أطاعهم وهو يعلم بذلك ...
قال الشيخ رحمه الله: (وَالْحُكْمُ بِالْقَانُونِ أَمْرٌ مُنْكَرُ ... لَا حَبَّذَا مَأمورُهُمْ وَالْآمِرُ)
الحكم بالقانون أمر منكر لأنه طاغوت؛ فيجب الكفر به؛ فيجب الكفر على كل مسلم؛ ذكر كان أو أنثى؛ صغيراً أو كبيراً؛ يجب عليه أن يكفر بالقوانين الوضعية .. سواء شرعها البرلمان أو مجلس أمة أو مجلس شعب أو جمعية عمومية أو غير ذلك مما سمي ..فكل قانون يخالف شرع الله تعالى؛ وكل نظام يخالف شريعة الله سبحانه؛ فإنه يجب الكفر به ..
وقد بَيَّنَّا معنى "الْكُفْرِ بِالْطَّاْغُوْتِ"؛ وهو أن المسلم يجب عليه أن يبرأ منه؛ وأن يبغضه؛ وأن يعادي أهله؛ وأن يتبرأ منهم ..
(لَا حَبَّذَا مَأمُورُهُمْ) يعني: المطيع من عامة الشعب أو عامة الناس ..
(وَالْآمِرُ): وهو الحاكم أو الْمُشَرِّعُ ..
(مَا عَلِمَ الْمِسْكِينُ حِينَ يُدْهِنُ ... "لَا تَجِدُ" "لَا تَقْعُدُواْ" "لَا تَرْكَنُواْ")
يقول: إن من يداهن هؤلاء الطواغيت ما تَذَكَّرَ قول الله تعالى:
{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
( لَا تَقْعُدُواْ ) يعني: أنه أيضاً ما تذكر قول الله تعالى:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}
( لَا تَرْكَنُواْ ) أي: قول الله تعالى
{ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}
(مَا عَلِمَ الْمِسْكِينُ حِينَ يُدْهِنُ "لَا تَجِدُ" "لَا تَقْعُدُواْ" "لَا تَرْكَنُواْ"
يَقُولُ "دِينِي لِي" و"قُلْ يَا أَيُّهَا" تَكْفِي وَلَكِنْ قَدْ دَهَاهُمْ جَهْلُهَا)
يعني أنه يقول: أنا أجالسهم ! وأنا أجاملهم !! وأنا أداهنهم !!! وديني لي !!!!
ويتأول قول الله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى أن قال سبحانه {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
والشيخ يَرُدُّ عليه؛ فيقول: ( و"قُلْ يَا أَيُّهَا" ) يعني: قل يا أيها الكافرون ( تَكْفِي وَلَكِنْ قَدْ دَهَاهُمْ جَهْلُهَا ) يعني: أنهم قد أصيبوا بالجهل بمعنى هذه السورة العظيمة؛ التي هي براءة من الشرك؛ كما قد أصيبوا أيضاً بالجهالة بمعنى "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّه"؛ ثم يبين الشيخ معنى سورة (قل يا أيها الكافرون)؛ ( قَدْ أُنْزِلَتْ لِلْفَرْقِ وَالْمُصَارَمَةِ ... فَاتُّخِذَتْ لِلْجَمْعِ وَالْمُسَالَمَةِ )؛ يعني: أنها أنزلت لمفارقة الكافرين ومنابذتهم ومصارمتهم ومعاداتهم ..
هذا هو معناها الحقيقي؛ فاحتج بها المداهنون على مسالمة الكافرين ! وعلى الاجتماع بهم !! والسكوت على باطلهم ومنكرهم !!!
أيها الأحبة .. ولقد حصر شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رؤوس الطواغيت في خمسة:
فقال كما في " الْدُّرَرُ الْسَنِيَّةُ " - وكل ما نقلته اليوم من كلامه هو من "الْدُّرَرُ الْسَنِيَّةُ" - قال:
والطواغيت كثيرة ! ورؤوسهم خمسة: ..
الأول - الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله؛ والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ..
الثاني - الحاكم الجائر المغير لأحكام الله تعالى؛ والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} ..
الثالث - الذي يحكم بغير ما أنزل الله؛ والدليل قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ..
الرابع - الذي يدعي علم الغيب؛ والدليل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}؛ وقوله سبحانه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ..
الخامس - الذي يُعْبَدُ من دون الله وهو راضٍ بالعبادة؛ والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} ..
وفي الأصول الثلاثة للشيخ رحمه الله؛ ذكر أيضاً من رؤوس الطواغيت: من دعا الناس إلى عبادة نفسه ...
أيها الأحبة الكرام .. هذه أهم رؤوس الطواغيت؛ ولنتحدث عنها واحداً واحداً؛
حتى يتضح للمسلم أنه يجب عليه أن يكفر بهذه الرؤوس التي انتشرت وكثرت في هذا الزمان؛ نسأل الله تعالى لجميع المسلمين العافية ..
أول رؤوس الطواغيت: الشيطان؛ والشيطان يشمل إبليس ويشمل أعوانه من شياطين الْجِنِّ والإنس؛ الذين هم أعداء الرسل؛ على الرسل الصلاة والسلام .. وهم أعداء أتباع الرسل؛ وهم الذين يدعون إلى الضلالة؛ ويصدون عن سبيل الله ..
ويدخل في ذلك العلمانيون والقوميون والمنافقون وغيرهم من أصناف المرتدين عن دين الإسلام ..
قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ}
وقال الله تعالى عن فرعون وملئه {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} ..
أيها الأحبة .. إن كل من دعا إلى مذهب مادي يعارض به الإسلام فهو طاغوت .. وكل من طعن في الإسلام وتنقص الشريعة واستهزأ بها سواء كان ذلك في مقالة ! أو كان ذلك في كتاب ! أو كان ذلك في مسلسلة ! أو كان ذلك في مسرحية ! أو كان ذلك في مجلس خاص ! أو عام ! مازحاً أو جاداً فهو طاغوت كافر ..
وكل من ألف كتاباً أو نشر مقالة أو فسح أجهزة الإعلام لشن حملة مسعورة على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آيات الله تعالى فهو طاغوت وإمام في الضلالة ..
وكل من حارب الإسلام بأي وسيلة؛ وكل من صد عن سبيل الله بلسانه أو بفعله أو بماله؛ فهو طاغوت وهو شيطان مارد من شياطين الإنس أو من شياطين الجن ..
يجب على المسلمين إذن بغضه والبراءة منه والكفر به ومعاداته في الله تعالى ومحاربته إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا ...
وثاني رؤوس الطواغيت: الذي يعبد من دون الله وهو راضٍ؛ سواء عبد في حياته أو عبد في مماته؛ إن كان يرضى بذلك ..
ويدخل في هذا أئمة المتصوفة وغلاتهم الذين يُعْبَدُوْنَ من دون الله تعالى ويسكتون على ذلك !
بل ويرشدون مريديهم وأتباعهم إلى الاستغاثة بهم والاستنجاد بهم والطواف على قبورهم والمجيء إليها ..
ويدخل في ذلك أيضاً الْمُشَرِّعُوْنَ لما يخالف دين الله تعالى من أعضاء البرلمانات ! أو من الْحُكَّاْمِ الظلمة الذين يَسُنُّوْنَ شرائع تخالف كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ..
فهؤلاء يدعون إلى عبادة أنفسهم حينما يعطون أنفسهم شيئاً من خصائص الربوبية !! وهو "التشريع" {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ..
ويلحق بذلك من دعا إلى عبادة نفسه؛ فهو أيضاً من رؤوس الطواغيت؛ وإن لم يعبد !
ومن هؤلاء من يدعو إلى الْغُلُوِّ ومن يُقِرُّهُ؛ سواء كان الغلو في الأموات أو كان في الأحياء !! وهذا كمشائخ الضلال؛ وروي عن بعضهم أنه أرشد أتباعه بأن من كانت له حاجة؛ أن يأتي إلى قبره ويستغيث به !!
وهذا كفرعون الذي قال لقومه {يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ..
والرأس الثالث من رؤوس الطواغيت: من ادعى شيئا من علم الغيب؛ وذلك أيها المسلمون كَالْمُنَجِّمِ والساحر والكاهن وَالْرَمَّاْلِ والعراف ونحوهم ..ممن ينصب نفسه للإخبار عن "الْمُغَيَّبَاْتِ المستقبلية"؛ فهؤلاء طواغيت ..
والغيب أيها الأحبة نوعان:
غيب الواقع؛ وهو غيب نسبي؛ يكون عند شخص معلوماً، ويكون عند آخر مجهولاً ..
وغيب المستقبل؛ وهذا غيب حقيقي؛ لا يعلمه إلا الله تعالى أو من أطلعه الله عليه من الرسل ..
فمن ادعى علم هذا الغيب "المستقبلي" فهو كافر؛ مكذب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} ..
ولذلك أيها الأحبة؛ ليحذر المسلم من التعامل مع من يدعي علم الغيب؛ فإنه إن صدقه في دعواه "علم الغيب" كان كافراً بالله تعالى ..
وقد كثر الابتلاء في هذا الزمان بالذهاب للسحرة والمشعوذين للعلاج أو غيره ! وما علموا أن السحر كفر !! وأن الساحر كافر !!! حيث لا يستطيع ممارسة السحر إلا بالشرك ! وبتقديم بعض العبادات للشياطين !!
قال الله تعالى {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} ..
كما ابتلي الناس بالذهاب للعرافين والمنجمين الذين يدعون علم الغيب ليخبروهم بالحوادث المستقبلية؛ ويخبروهم بالحظ والنصيب .. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً .. رواه مسلم .
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ومن أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فق